رغم الإجماع اللبناني حولها، ولدت المحكمة الخاصة بلبنان بإرادات دول لا تكترث لجرائم ترتكب ضداللبنانيين، وفي قواعد الإجراءات والإثبات مواد غير مألوفة، أستاذ القانون الدكتور داوود خير الله يعود إلى المرحلة التأسيسية للمحكمة، وبعض ما ارتكب من مخالفة الدستور اللبناني، وتحدث عن نماذج المحاكم الدولية
أجرتها: بيسان طيتلفت قراءة مواد في قواعد الإجراءات والإثباتات المعتمدة في المحكمة الخاصة بلبنان إلى الطابع القانوني غير المألوف لبعضها. إنها المحكمة الدولية التي أُنشئت قبل نحو ثلاثة أعوام، عُلّقت، وما تزال تُعلّق عليها آمال كثيرة للتوصل إلى معرفة هوية من نفذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، ومن وراءه. لكن الراغب في التعرّف إلى آليات عملها قد يقع على ما يثير أسئلة كثيرة، منها مثلاً ما ورد في الفقرة أ من المادة 118 بأنه «عندما تكون بحوزة المدعي العام معلومات قُدمت له بصفة سرية وتمسّ بالمصالح الأمنية لدولة ما أو هيئة دولية أو ممثل عنها، لا يعمد المدعي العام إلى إبلاغ تلك المعلومات ومصدرها إلا بموافقة الشخص أو الهيئة التي قدمتها». في هذه الفقرة مثلاً ما يحرم المتهم من حق مواجهة متهمه، هذا عدا أسئلة أخرى تثيرها الفقرة، ألا تسمح مثلاً لشهود زور جدد ـــــ ليس كأفراد بل ربما كممثلي دول ـــــ من تقديم شهادات مزوّرة وإثارة شكوك حول أناس لا علاقة لهم بالجريمة، وقد يذهب هؤلاء إلى تمرير رسائل قد تُحدث بلبلة، بل قد تسمح باللعب على محاولات إشعال فتن داخلية....داوود خير الله بروفسور مساعد في مركز الدراسات القانونية في جامعة جورج تاون ـــــ واشنطن، يقرّ بوجود مواد غير مألوفة في قواعد الإجراءات والإثباتات التي اعتمدت في المحكمة، لكنه يعود بالمشكلة إلى جذرها، يقول «ما يدفعنا إلى الشك في هذه المواد عدا عن أنها غير مألوفة، فإن بعضها يعطي للمحققين صلاحيات غير مألوفة، لكن الجذر يتمثل في ما رافق ولادة هذه المحكمة، فهي وإن تأسست بعد إجماع لبناني حولها، إلا أن الثقة بها دُمرت، من خلال الشك بمجرى العدالة، وقد بدأ هذا الشكل بسبب الأخطاء المتعمدة التي ارتكبها القاضي الألماني ديتليف ميليس، أول رئيس للجنة التحقيق في اغتيال الرئيس الحريري، وهذه الأخطاء هي مخالفة مبدأ سرية التحقيقات، اعتماد خطة في التحقيق توجه التهمة لفريق معين وتنفي التهمة عن أي فريق أو متهم آخر، تسريب معلومات تعرّض أسس ونزاهة التحقيق للخطر وللشك، هذا إضافة إلى اعتماد شهادات شهود زور، ما أدى إلى توجيه اتهامات لأشخاص محددين ووضعهم في السجون، لتبيّن التحقيقات زور هذه الشهادات، والظلم الذي ألحقته بالبعض. في مرحلة لاحقة رأت المحكمة أن ملاحقة أو مساءلة شهود الزور من خارج صلاحياتها، وهذا الموقف لم يساعد في تنقية الأجواء أو الجسر الذي يعيد الثقة الكاملة، أي ثقة اللبنانيين كلهم، بالمحكمة.يشدد البروفسور خير الله على أن العدالة هي مطلب عام، وعندما يُدخل عنصر التسييس على الأداة القانونية لبلوغ حقيقة ما أو نتيجة ما في التحقيقات، فإن العدالة ستكون الضحية الأولى لعملية التسييس هذه. يتوقف أستاذ القانون عند هذه الملاحظة ليذكّر بعامل ثانٍ يدعو إلى الشكوك ببعض المواد، والخوف من أن تكون هذه المواد لتكرار الأخطاء التي حصلت سابقاً، وهنا يُذكّر بأن الإرادات الأجنبية التي ساهمت في خلق المحكمة لم تأت كأياد بيضاء تريد الخير للبنان، بعض الدول التي دعمت المحكمة ارتكبت أو ساندت من ارتكب جرائم ضد اللبنانيين، وبذلك يُفهم أن هذه الدول لا تهدف إلى تحقيق العدالة.العناصر التي تحدث عنها خير الله هي التي تدعو إلى الحذر من كيفية تطبيق المواد «غير المألوفة» في قواعد الإجراءات والإثباتات المعتمدة في المحكمة، ومنها المواد 74 و117 و118، فنقرأ في الفقرة «واو» من المادة 118 أنه «إذا طلب المدعي العام شاهداً ليقدم كوسيلة إثبات أي معلومة معطاة بموجب هذه المادة، فلا يجوز لقاضي الإجراءات التمهيدية ولا لغرفة الدرجة الأولى إلزام هذا الشاهد بالإجابة عن أي سؤال يتعلق بالمعلومات أو بمصدرها إذا امتنع الشاهد عن الإجابة بداعي السرية».ويرى خير الله أن على المحكمة وجهازها كله أن يتمتع بحكمة هائلة كي لا يتخذ أي فريق هذه المواد وسيلة لخلق فتنة داخلية في لبنان.يتحدث البروفسور خير الله عن المحاكم الدولية، ويقول إن المحكمة الخاصة بلبنان ليس لها مثيل بين تلك المحاكم التي نشأت، كالمحكمة الخاصة بطوكيو وهي من محاكم المنتصر للمهزوم، أو المحكمة الخاصة بيوغوسلافيا أو بروندا، وهاتان المحكمتان نشأتا بعدما مورس ضغط عالمي هائل، مطالباً بمعاقبة من ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية، وصدرت قرارات عن مجلس الأمن في الأمم المتحدة تدعو إلى وقف إطلاق النار، ومن ثم جاءت قرارات الأمم المتحدة بإنشاء هاتين المحكمتين بموجب الفصل السابع، وذلك لأن الجرائم المرتكبة هي جرائم ضد الإنسانية تمثّل تهديداً للسلم العالمي. وفي هذه الحالة فقط، يتم اللجوء إلى الفصل السابع، وتقوم منظمة الأمم المتحدة وحدها بتمويل المحاكم المماثلة.أما النوع الآخر من المحاكم الدولية، كالمحكمة الخاصة بسيراليون وكمبوديا، فقد أُنشئت بموجب اتفاقية بين حكومات هذه الدول ومنظمة الأمم المتحدة للمعاقبة على جرائم ضد الإنسانية، ولتلك المحاكم اختصاص إضافي يتعلق بجرائم داخلية. ولكن الأساس القانوني لتلك المحاكم هو اتفاقية بين الدولة المعنية والأمم المتحدة، وهي بذلك لا تحتاج، أو لا تقوم وفقاً للفصل السابع. يذكر الدكتور خير الله أن جريمة اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري ليست موصوفة في القانون الدولي، أو لا ينظر فيها وفقاً لمواد القانون الدولي، ويضيف إنه خلال إقرار مبدأ اعتماد المحكمة الخاصة بلبنان ارتكبت مخالفة دستورية، فالطرف المكلّف بالتفاوض في الاتفاقيات الدولية هو رئيس الجمهورية، لكنه كان محيّداً في تلك الفترة، ومن ثم كان يجب أن تُبرم الاتفاقية من خلال إمرارها عبر مجلس النواب.يعود البروفسور خير الله في حديثه إلى الارتكاز على أهمية أن يتمتع كوادر المحكمة بحكمة كبيرة، ليدركوا بعض الخلفيات التي أدت إلى نشوئها، ويتفهّموا شكوك لبنانيين بها.وقفةفي 4 كانون الثاني 2007، نشر البروفسور داوود خير الله في «الأخبار» رسالة مفتوحة موجّهة إلى وزير العدل ــ حينها ــ شارل رزق. جاء فيها إنّ القبول بإنشاء المحكمة الخاصة ذات الطابع الدولي، في ضوء ما جاء في مشروع نظامها الأساسي، ينطوي على انتقاص من السيادة الوطنية مهما كانت المبررات لهذا القبول... وأهمّ مظاهر السيادة هو أن تتولّى الدولة ممارسة جميع حقوقها ومسؤولية تطبيق القانون في كل الجرائم التي ترتكب على أرضها.وتوقف خير الله عند «صمت المجتمع الحقوقي في لبنان تجاه مسألة ذات أبعاد قانونية وأثر في الحياة العامة بهذا المقدار من الأهميّ
ة»
No comments:
Post a Comment